كوب من الثقافة

16 سبتمبر 2025
Taolefah
كوب من الثقافة

كوب من الثقافة: الشاي كحوار، والنكهة كرمز، والكوب كجسر بين العوالم



في قلب كل حضارة، هناك لحظة صمت، لحظة تأمل، لحظة اجتماع بشري بسيط حول مشروب دافئ. وفي كل مجتمع مهما تنوّعت لغاته وأديانه، يظل الشاي حاضنًا لتلك اللحظات: في طقوس اليابانيين الدقيقة، وفي كرم العرب، وفي جلسات الأصدقاء، وفي عزلة التأمل.


وعندما قدمت علامة “توليفة” بدعمٍ كريم من وزارة الثقافة السعودية منتج “كوب من الثقافة” ضمن مشاركة المملكة في إكسبو 2025 – أوساكا، لم تكن تقدّم مجرد شاي جديد، بل كانت تقدّم لغة عالمية صامتة، يتحدثها الجميع دون الحاجة إلى ترجمة. فقد أرادت أن تضع في يد الزائر شيئًا أكثر من منتج… أرادت أن تضع فكرة.


هذا الكوب ليس ابتكارًا نكهيًا فقط، بل ترجمة رمزية لهوية مزدوجة: من جهة، شاي السينشا الأخضر الياباني، الذي ينتمي إلى تقليد عريق يعتبر الشاي طقسًا من طقوس الوجود ذاته، حيث لكل تفصيلة – من الغلي، إلى السكب، إلى الرشفة – معنى. ومن جهة أخرى، الحبق السعودي والنعناع، نباتات متجذرة في البيئة والثقافة السعودية، لا تُستخدم فقط كمذاق، بل كحضور اجتماعي وروحي: في المجالس، في التداوي، في الضيافة، وحتى في الذاكرة.




بين طقسية السينشا وروحانية الحبق


الشاي الياباني، وخاصة السينشا، ليس مشروبًا عاديًا. بل هو جزء من فلسفة كاملة ترى في البساطة كمالًا، وفي الصمت لغة. كوب السينشا يدعو للشكر، للتأمل، للبطء في عالم مسرع. أما الحبق والنعناع في الثقافة السعودية، فهما نداء للدفء، للراحة، لعودة الإنسان إلى الطبيعة وإلى ما هو مألوف ومحبّب.


وعندما يلتقيان في “كوب من الثقافة”، فإننا لا نحصل على مزيج أعشاب فحسب، بل على لقاء رؤيتين للوجود: رؤية ترى في الانضباط جمالًا، ورؤية ترى في الانفتاح حميمية.


هذا الكوب هو اختزال لحوار لم يحدث بالكلمات، بل بالأعشاب. لم يُكتب على ورق، بل وُضع في كيس شاي صغير، ليُفتح في الماء الساخن، تمامًا كما تنفتح النوايا حين تجتمع القلوب دون شروط.



الرمز الذي يُشرب


كل منتج يحمل رسالة، لكن قليل منها ما يحمل رمزًا يمكن تذوقه. “كوب من الثقافة” هو أحد تلك المنتجات التي تتجاوز وظائفها المادية لتصبح كائنًا رمزيًا بحد ذاته. إنه لا يُروّج لوصفة، بل يروي قصة: عن تقاطع، لا تصادم؛ عن اختلاف، لا خلاف؛ عن الجذور التي تمتد من الصحارى إلى الجبال، ومن طقوس الكامليا إلى عبق الحبق.


بلغة أخرى: إنه جسر شفاف بين ضفتين، لا يُبنى من حديد، بل من نكهة، ومن نية، ومن احترام.


الفلسفة في الرشفة


قد يبدو التأمل في كوب شاي نوعًا من المبالغة… لكن أليست الحياة كلها متجمعة في تفاصيل صغيرة؟

في لحظة رشفة، يختبر الإنسان الحرارة والمرارة والنعومة والنقاء. وهذا ما فعله هذا الكوب: أعطى لتلك اللحظة معاني جديدة. فهو لا يدّعي أنه يصنع سلامًا عالميًا، لكنه يؤمن أن كل تغيير عميق يبدأ من لحظة إنسانية بسيطة، من شيء مألوف نحبه، من طقس نشارك فيه الآخر دون قلق من الهوية، ودون خوف من التباين.


الختام: الشاي ليس فقط شايًا


في النهاية، “كوب من الثقافة” ليس منتجًا يستهلك، بل تجربة تُعاش، ورسالة تُحسّ، وفكرة تُفكّر.

إنه دعوة لأن نعيد النظر في أبسط ما نفعله كل يوم، وأن نسأل: هل يمكن لكوب شاي أن يختصر رؤية حضارية؟ أن يعكس فلسفة حياة؟ أن يكون أداة سلام؟

ربما نعم. وربما كل ما نحتاجه هو أن نتذوق ببطء، وأن نستمع إلى النكهات كما لو كانت كلمات.


كل الشكر والتقدير لوزارة الثقافة على دعمها لهذه المبادرة الفريدة، وإتاحتها الفرصة لتقديم الثقافة السعودية للعالم بأسلوب مبتكر، حي، وقابل للتذوق.